فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (91):

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)}
يُفْرَضُ على كافةِ المسلمين بعهد الله في قبول الإسلام والإيمان، فتجبُ عليهم استدامةُ الإيمان. ثم لكلِّ قوم منهم عهدٌ مخصوص عاهدوا الله عليه، فهم مُطَالَبُون بالوفاء به؛ فالزاهدُ عَهْده ألا يرجعَ إلى الدنيا، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نَقضَ عهده ولم يفِ به. والعابد عاهده في تَرِكِ الهوى. والمريدُ عَاهَدَه في ترك العادة، وآثره بكل وجه. والعارف عهده التجرد له، وإنكار ما سواه. والمحب عهده تركُ نَفْسِهِ معه بكل وجه والموحّضد عهده الامتحاء عنه، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد مَنْهِيٌّ عن تقصير عهده، مأمورٌ بالوفاء به.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هي أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} مَنْ نَقَضَ عهده أفسد بآخِرِ أمرِه أَوَّلَه، وهَدَمَ بِفِعْلِهِ ما أَسَّسَه، وقَلَعَ بيده ما غَرَسَه، وكان كمن نقضت غَزْلَها من بعد قوة أنكاثاً أي من بعد ما أبرمت فَتْلَه.
وإنَّ السالكَ إذا وقعت له فترة، والمريدََ إذا حصلت له في الطريق وقفةٌ، والعارف إذا حصلت له حجَبَةٌ، والمحبِّ إذا استقبلته فرقةٌ- فهذه مِحَنٌ عظيمةٌ ومصائِبُ فجيعةٌ، فكما قيل:
فَلأَبْكِيَنَّ على الهلالِ تأسُّفاً ** خوفَ الكسوفِ عليه قبل تمامه

فما هو إلا أَنْ تُكْشَفُ شَمْسهُم، وينطفِئَ- في الليلة الظلماءِ- سِرجُهم، ويتشتَّتَ من السماء نجومِهم، ويصيبَ أزهارَ أنْسِهم وربيعَ وَصْلِهم إعصارٌ فيه بلاءٌ شديدٌ، وعذابٌ أليم، فإنَّ الحقَّ- سبحانه إذا أراد بقوم بلاءً فكما يقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئَدَتَهُم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 10] فإِنَّ آثارَ سُخْطِ الملوكِ مُوجِعةُ، وقصةَ إعراضِ السلطانِ مُوحِشَةٌ وكما قيل:
والصبر يَحْسُنُ في المواطن كلها ** إلا عليكَ- فإنَّه مذمومٌ

هنالك تنسكب العَبَرَاتُ، وتُشَق الجيوب، وتُلْطَم الخدود، وتُعطَّلُ العِشار، وتخَرَّبُ المنازلُ، وتسودُّ الأبواب، وينوح النائح:
وأتى الرسول فأخ ** بر أنهم رحلوا قريبا

رجعوا إلى أوطانهم ** فجرى لهم دمعي صبيبا

وتركن ناراً في الضلوع ** وزرعن في رأسي مشيبا

قوله جلّ ذكره: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
بلاءُ كلِّ واحدٍ على ما يليق بحاله؛ فمن كان بلاؤه بحديث النَّفْسِ أو ببقائه عن هواه، وبحرمانه لكرائمه في عُقْباه فاسمُ البلاءِ في صفته مَجَازٌ، وإنما هذا بلاء العوام. ولكنَّ بلاَءَ هذا غيرُ الكرامِ فهو كما قيل:
مَنْ لم يَبِتَ- والحبُّ مِلْءُ قؤادِه , لم يَدْرِ كيف تَفَتُّتُ الأكبادِ

.تفسير الآية رقم (93):

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}
ليست واقعةُ القوم بخسرانٍ يُصيبهم في أموالهم، أو من جهة تقصيرهم في أعمالهم ولِمَا صنيَّعوه من أحوالهم.. فهذه- لعمري- وجوهٌ وأسبابٌ، ولكنَّ سِرَّ القصةِ كما قيل:
أنَا صَبٌّ لِمَنْ هَوَيْتُ ولكن ** ما احتيالي بسوء رأي الموالي

قوله: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}: لو شاء الله سَعَادَتَهمُ لَرَحِمَهُم، وعن المعاصي عَصَمَهُم، وبدوامِ الذكر- بَدَلَ الغفلة- ألهمهم.... ولكن سَبَقَتْ القسمةُ في ذلك، وما أحسن ما قالوا:
شكا إليك ما وَجَدْ ** مَنْ خانه فيك الجَلَدْ

حيرانُ.. لو شِئْتَ اهتدى ** ظمآنُ.. لو شِئْتَ وَرَدْ

.تفسير الآية رقم (94):

{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)}
أَبعَدَكُم عَدَمُ صِدْقِكم في إيمانِكم عن تحقُّقكم ببرهانكم، لأنكم وقفتم على حَدِّ التردد دون القطع والتعيين، فأفضى بكم تردُّدُكم إلى أوطانِ شِرْككُم، إذ الشكُّ في الله والشِّركُ به قرينان في الحُكْم.

.تفسير الآية رقم (95):

{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)}
لا تختاروا على القيام بحقِّ اللَّهِ والوفاءِ بعهده عِوَضَاً يسيراً مما تنتفعون به من حُطام دنياكم من حلالكم وحرامكم، فإنَّ ما أعدَّ اللَّهُ لكم في جناته- بشرط وفائكم لإيمانكم- يوفي ويربو على ما تتعجلون به من حظوظكم.

.تفسير الآية رقم (96):

{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}
الذي عندكم عَرَضٌ حادث فانٍ، والذي عند الله من ثوابكم في مآلِكُم نِعَمٌ مجموعةٌ، لا مقطعوعةٌ ولا ممنوعة.
ويقال ما عندكم أو ما منكم أو مالكم أفعالٌ معلولة وأحوالٌ مدخولة، وما عند الله فثوابٌ مقيمٌ ونعيمٌ عظيمٌ.
ويقال ما منكم من معارفكم ومحابكم آثارٌ متعاقبةٌ، وأصناف متناوبة، أعيانُها غيرُ باقية وإنكات أحكامُها غير باطلة والذي يتصف الحقُّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفاتُ أزلية ونعوتٌ سرمدية.
ويقال ما عندكم من اشتياقكم إلى لقائنا فَمُعرَّضُ للزوال، وقابلٌ للانقضاء، وما وَصَفْنَا به أَنْفُسَا من الإقبال لا يتناهي وأفضال لا تفْنى، كما قيل:
ألا طال شوقُ الأبرار الى لقائي ** وإني للقائهم لأَشَدُّ شوقا

قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا...}: جزاءُ الصبر الفوزُ بالطِّلْبَةِ، والظَّفَرُ بالبُغية. ومآلهم في الطلبات يختلف: فَمَنْ صَبَرَ على مقاساة مشقةٍ في الله. فعِوضُه وثوابُه عظيمٌ من قِبَل الله، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
ومَنْ صبر عن اتباع شهوةٍ لأَِجْل الله، وعن ارتكاب هفوةٍ مخافةً لله فجزاؤه كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقًّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً} [الفرقان: 57].
ومَنْ صبر تحت جريان حُكْمِ الله، متحققاً بأنه بِمَرْآةٍ من الله فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

.تفسير الآية رقم (97):

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}
الصالح ما يصلح للقبول، والذي يصلح للقبول ما كان علىلوجه الذي أمر الله به. وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً}: في الحال، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}: في المآل؛ فصفَاءُ الحالِ يستوجِبُ وفاءَ المآلِ، والعملُ الصالحُ لا يكون من غير إيمان، ولذا قال: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
ويقال: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي مصدِّقٌ بأن إيمانه من فضل الله لا بعمله الصالح. ويقال: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي مصدِّقٌ بأن عمله بتوفيق الله وإنشائه وإبدائه. قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}: الفاء للتعقيب، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} الواو للعطف ففي الأولى مُعَجَّل، وفي الثانية مؤجَّل، ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا يُعْرَف بالنطق، وإنما يعرف ذلك بالذوق؛ فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة، وقوم قالوا إنه القناعة، وقوم قالوا إنه الرضا، وقوم قالوا إنه النجوى، وقوم قالوا إنه نسيم القرب والكل صحيحٌ ولكلِّ واحدٍ أهل.
ويقال الحياة الطيبة مايكون مع المحبوب، وفي معناه قالوا:
نحن في أكمل السرور ولكنْ ** ليس إلا بكم يَتِمُّ السرورُ

عَيْبُ ما نحن فيه يا أهلَ ودِّي ** أنكم غُيِّبٌ ونحن حُضُورُ

ويقال الحياة الطيبة للأَولياء ألا تكون لهم حاجةٌ ولا سؤالٌ ولا أَرَبٌ ولا مُطَالَبَةٌ وفرقٌ بين من له إرادة فتُرْفَع وبين من لا إرادةَ له فلا يريد شيئاً، الأولون قائمون بشرط العبودية، والآخرون مُعْتَقُون بشرط الحرية.

.تفسير الآية رقم (98):

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)}
شيطانُ كُلِّ واحدٍ ما يشغله عن ربه، فمن تَسَلَّطَتْ عليه نَفْسُه حتى شَغَلَتْه عن ربه ولو بشهود طاعةٍ أو استحلاءِ عبادة أو ملاحظةِ حال- فذلك شيطانُه. والواجبُ عليه أن يستعيذَ بالله من شرِّ نَفْسِه، وشرِّ كل ذي شر.

.تفسير الآية رقم (99):

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}
أنَّى يكون للشيطانِ سلطانُ على العبد والحقُّ- سبحانه- متفرِّدٌ بالإبداع، متوحِّدٌ بالاختراع؟

.تفسير الآية رقم (100):

{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}
إنما سلطانُه على الذين هم في غطاء غفلتهم، وستر ظنونهم ومشتبهاتهم. فأمَّا أصحاب التوحيد فإنهم يرون الحادثاتِ بالله ظهورُها، ومن اللَّهِ ابتداؤها، وإلى الله مآلها وانتهاؤها.

.تفسير الآيات (101- 102):

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}
ما زادوا في طول مدتهم إلا شكاً على شكٍ، وجحدوا على جحدٍ، وجرَوْا على منهاجهم في التكذيب، فلم يُصَدِّقوه صلى الله عليه وسلم، وما زادوا في ولايته إلا شكاً ومُرْية:
وكذا الملولُ إذا أَرَادَ قطيعةً ** مَلَّ الوصال وقال كان وكانا

قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ}: ردٌّ على فرط جهلهم بربهم، وبُعْدِ رتبتهم عن التحصيل، فلمَّا كانوا متفرقين في شهود المَلِكِ رُدُّوا في حين التعريف إليهم بِذِكْرِ المَلَكِ.

.تفسير الآية رقم (103):

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}
لم يستوحش الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- من تكذيبهم، وخفاءِ حاله وقَدْرِه عليهم.. وأيُّ ضررِ يلحق مَنْ كانت مع السلطان مُجَالَسَتُه إذا خَفِيَتَ على الأَخسِّ مِنَ ابرعيةِ حالتُه؟
ثم إنه أقام الحجةَ في الردِّ عليهم حيث قال: {لِسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ}: فَمِن فَرْطِ جهلهم توهموا أنَّ القرآنَ- الذي عجز كافةُ الخَلْق عن معارضته في فصاحته بلاغته- مقولٌ وحاصلٌ باتصاله بِمَنْ هو أعجمي النطق.

.تفسير الآية رقم (104):

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}
إنَّ منْ سَبَقَتْ بالشقاوة قسمتُه لم تتعلق من الحق- سبحانه- به رحمتُه، ومَنْ لم يَهْدِهِ اللَّهُ في عاجله إلى معرفِته لا يهديه اللَّهُ في آجِلِه إلى جنته.

.تفسير الآية رقم (105):

{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}
هذا من لطائف المعاريض؛ إذ لمَّا وصفوه- عليه السلام- بالافتراء أنار الحقُّ- سبحانه- في الجواب، فقال: لستَ أَنت المفترِي إنما المفترِي مَنْ كذَّبَ معبودَه وجَهِلَ توحيدَه.

.تفسير الآية رقم (106):

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}
إذا عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإخلاصَه في عَقْدِه، ولحقته ضرورة في حاله خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ودَفَع عنه عناءَه فلا يَلْفِظُ بكلمة الكفر إلا مُكْرَهاً- وهو مُوَحِّدٌ، وهو مستحقٌ العُذْرَ فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوكِ طريق الله ثم عَرَضَتْ لهم أسبابٌ، واتفقت لهم أعذارٌ، كأن يكون لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ أو إلى شيءٍ من العلوم رجوعٌ لم يكن ذلك قادحاً في صحة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك فسخاً لعهودهم، ولا ينفي بذلك عنهم سِمَةَ القَصْدِ إلى الله تعالى.
أَمَّا {مَّن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً}: فرجع باختياره، ووضع قَدَماً- كان قد رَفَعَه في طريق الله- بِحُكْمِ هواه فقد نَقَضَ عهْدَ إرادته، وفَسَخَ عقده، وهو مستوجب (....) إلى (...) تتداركه الرحمة.

.تفسير الآية رقم (108):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)}
إذا تمادى في غفلته، ولم يتدارك حالَه بملازمةِ حَسْرَتِه، ازداد قسوةً على قسوة، ولم يستمتع بما هو فيه من قوة، وكما قال جل ذكره:

.تفسير الآية رقم (109):

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}
هم في الآخرة محجوبون، وبِذُلِّ البعد موسومون.

.تفسير الآية رقم (110):

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}
ومَنْ صَبَرَ حين عزم الأمر، ولم يجنح إلى جانب الرُّخَصِ، وأخذ في الأمور بالأشَقِّ أكرم اللَّهُ حَقِّه، وقرَّب مكانَه، ولَقَّاه في كل حالةِ بالزيادة، وربحت صفقتُه حين خسِرَ أشكالُه، وتَقَدَّم على الجملة وإِنْ قَلَّ احتيالُه.